سؤال الانتماء بين الدين والوطن.

لكل عاقل أن يطرحَ هذين السؤاليْن المنطقيَيْن: ما معنى الانتماء إلى الحدود الترابيَة؟ وما معنى الانتماء إلى الجماعة العرقية؟

لكنَ الجواب عليهما سيكون معركة كلاميَةً شرسة أو حربًا دمويَةً فعلًا تنتهي بمَزيد من الاستقطاب وإزهاق الأرواح والكلمات، لذا حين نريد أن نطرح هذين السؤالين يجب أن نستدعيَ طَرَفًا له كثيرٌ من التعقل والرزانة والحلْم حتى لا نصلَ إلى نهاية مأسويَة، وحتى لا يقفَ مَن بعدنا فلا يجدون إلا أطلالَ أفكارنا تتصرَمها رياح النسيان والمَقْت الشديد.

يولد الإنسان وهو لا يدرك شيئًا سوى الانتماء إلى حضن والدته التي يرى فيها العالَمَ كلَه، يرى فيها وجودَه الذاتيَ ويرتبط بها ارتباطًا وثيقًا، ثم تنمو مَعارفه لينتميَ تلقائيًا إلى أسرته التي لا بدَ منها، ولكنه حين يدخل مرحلة التمييز تتقاذفه أمواج الانتماءات المتناقضة وغير المعقولة بالمرَة، ولا يكاد يلقي بنفسه في دائرة حتى تتجاذبه الدوائر الأخرى القريبة والبعيدة، لتنتابَه التساؤلات الوجودية وتزْعج عقله الباطنَ أيَما إزعاج: هل لي الحق في الانتماء خارجَ حدود قريتي الصغيرة التي أعرف ناسَها وساسَها؟ أم لي الحق في الانتماء إلى خارج المجموعة العشائرية التي يجري في عروقي دماؤها وتباريح أجدادها؟ وتتَسع دائرة الاحتمالات حتى تصلَ إلى مساحة كبيرة في الجغرافيا والدم والفكر، وتتداخل الدوائر وتتقاطع بصورة تجعل الاستقرار على ناحية منها شبهَ مستحيل، ولا يتخلَص الإنسان من هذه المعضلة إلا بأمر واحد هو محاكَمة هذه الانتماءات إلى سلطة «العقل المطلق»، ويعنى بالعقل المطلق أو «العقل المشترَك» هو الرجوع إلى قوانين العقل الإنساني التي لا يمكن أبدًا أن تختلفَ بين اثنين من الناس مهما كانت خلفيَاتهما وانتماءاتهما، وعند التحاكم إلى سلطة العقل المطلق تتجلَى الأسئلة التي يمكن الإجابة عنها بكل سهولة ويسر:

ما الفرق بين الإنسان وأخيه الإنسان؟ ما الفرق بين الأمكنة الجغرافية؟ ما الفرق بين اللغات ما دامت المعاني واحدة والاختلاف فقط في الألفاظ والأصوات؟

وحين يشرَع الإنسان في الإجابة عن تساؤلاته هذه سيجد نفسه مندهشًا أمام الحقيقة الطبيعية الصادمة، لأنه لن يجد أي اختلاف حقيقي بينه وبينه أي فرد آخرَ في سائر المجموعات البشريَة، فكلهم يمارسون وظائفهم البيولوجية الضرورية في بقاء واستمرار النسل الإنساني، وكلهم يسعون إلى السعادة الذاتية وتحصيل الأمن الخارجي لأشخاصهم ومن هو قريبٌ منهم، وكلهم يتنقَلون في مساحة جغرافية معينة ويستغلون أجزاء الطبيعة لمَصالحهم كما يَسْتَغلها هو تمامًا، فأين الفرق؟!

قد تبدو هذه التساؤلات بدائيَةً – وإن كنت أرفض وجود خرافة البدائيَة في مسيرة الإنسان وإنَما هناك البداوة فحسب -؛ ولكنْ حين نوجه هذه التساؤلات نحو انتماءات العصر الحديث ستتساقط لدينا ما كنا نحسَبها ثوابتَ وحقائقَ لا يمكن لأحد التفكير فيها فضلًا عن مراجعتها أو إلحاق الشكوك بها، وأقصد بهذه الانتماءات انتماء الإنسان إلى ما يسمَى بـ«الدول القطْريَة» أو «الأوطان»، فالشعوب الآنَ تدافع بشدة عن «أوطانها» ويلتهب حماسها للدافع عن حدود بلدانها الترابية، ولو أراد أحدٌ الاعتداء على شبر واحد من «الوطن» أو أراد زعيمٌ أن يتنازلَ قيدَ أنْملة من تراب شعبه فسوف ينتفض الشعب وتهتز الأرض تحتهم ولا تتوقَف ثورتهم حتى تأمَنَ كل حبة رمل من أرض «الوطن»، ولكنَك لو سألتَ أحدَهم: لماذا كانت حدود بلدك مرسومةً على هذا الشكل؟ وما منَع أن تكون بلادكَ أوسع مما هي عليه الآن؟ ولماذا رضيَ الآخرون باقتطاع مساحة من بلادهم وتنازلوا عنها لصالحك؟ بل ما هي الشروط التي يجب أن تتوافَرَ في التراب والرمل والسهول والجمادات والمياه والأنهار حتى يسوغَ لها أن تكون جزءًا من وطنك؟ وما الفرق بين التراب والتراب؟ وبين الرمل والرمل؟ وبين البحر والبحر؟ أبينهما برزخٌ لا يَبْغيَان؟!

لو سألتَ أحدًا من مواطني أي دولة عن هذه الأمور فسوف يعتبر أسئلتَكَ جنونيةً لا وجودية، ولكنه لو تأملها قليلًا لوقع في مأزق فكري عميق لا قبَل له به، وإذا أردْنا أن نحصرَ هذا الطرحَ في رقعتنا الإسلامية لتفاقمت المعضلة كثيرًا، وهذا هو المغزى من العنوان الذي اخترته لتدوينتي هذه. فالمسلم يؤمن بمبادئَ مناقضة تمامًا للانتماء القطْري، والعاطفة الإسلامية الشعبية تؤكد على أنه لا فرقَ بين جزائري أو مصري أو شامي أو خليجي أو يمني أو تونسي أو تركي أو ماليزي أو بَلقاني أو هندي ما داموا كلهم مسلمين، وهذا أمرٌ بديهيٌ في الذاكرة الجَمعية لنا نحن المسلمين، ولكن الانتماء القطريَ الوطنيَ يغلب هذه العاطفة عند ظهور الجَدَل في السياسة الخارجية للبلدان العربية والإسلامية، وفي كل المناسبات التي تمثل نزاعًا حدوديًا أو سياسيًا أو اقتصاديًا بين مواطني هذه البلدان، وتكون مقولة مارك توين «الوطنية هي أن تدعم بلادك في جميع الأوقات، وحكومتك عندما تستحق ذلك»؛ هي المَرْجعَ الأساسي في مثل هذه الحالات والحَكَم الفاصلَ في مثل هذه النزاعات، وبذلك تنهدم لحمة الأمة الإسلامية التي مَبناها على أنه لا انتماءَ صحيحًا لأي فرد من أفراد المسلمين إلا للأمة ولا ولاءَ إلا على مبادئ الإسلام الكبرى التي تجمع بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وهذه الثوابت مَركوزةٌ في جوهر الدين الإسلامي عبر نصوص متواترة تواترًا معنويًا أذكر من بينها ما يلي:

· «إن هذه أمَتكم أمَةٌ واحدةٌ وأنا ربكم فاعبدون» (قرآن).

· «واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَقوا» (قرآن).

· «ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهبَ ريحكم» (قرآن).

· «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذَكَر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم» (قرآن).

· «إنما المؤمنون إخوة» (قرآن).

· «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص؛ يشد بعضه بعضًا» (حديث نبوي).

· «إن الله يرضى لكم ثلاثًا ويكره لكم ثلاثًا، فيرضى لكم: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا، ولا تَفرَقوا، ويكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» (حديث نبوي).

· «مَثَل المؤمنين في تَوادهمْ وتراحمهم كَمثَل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعَى له سائر الجسد بالحمَى والسَهَر» (حديث نبوي)

ومع ثبوت هذا الأصل في عقيدة المسلمين -على اختلاف مَذاهبهم ومَشاربهم وأعراقهم ولغاتهم- إلا أننا نجد ظاهرة الانتماء الوطني تنقض هذا المبدأ الإسلامي بصورة فَجَة، لدرجة أن تكون آراء “الفقهاء” وأهل الفتوى متعلقةً حسب مزاج البلاد التي ينتمون إليها، وتستفحل هذه الظاهرة حتى يكون النظام الحاكم لتلك البلاد هو الموجهَ الأساسيَ لآراء علماء الدين حتى لو كان ذلك يؤثر على اصطدامهم بروح الشريعة الإسلامية، ونجد ذلك واضحًا في مواقف مشايخ المملكة العربية السعودية في أزمات الخليج الأولى واحتلال العراق (2003) وصولا إلى ما نشهده هذه الأيام من حصار قطر والاجتهادات الغريبة لهؤلاء من أجل إضفاء الشرعية على محاولات ضرب الاقتصاد القطري وإحداث القطيعة بين الشعوب الإسلامية ثم منع الحجَاج والمعتمرين من دولة قطر أن يزوروا البقاع المقدَسة، وهذا غاية ما وصل إليه الفكر الوطني من دركات الانحطاط الأخلاقي والانسلاخ من روح الشريعة الإسلامية التي أعطت قيمة عظيمة لأي مسلم مهما كان عرْقه أو لغته أو منطقته أو مَذهبه، فهل سيكون الفقهاء أولَ من يهدم مبادئ الشريعة التي يدَعون أنهم حماتها؟!

تعليقات