-
قال جريرٌ يذكر أيَّامَ كان يتغزَّل بالنسوة فيعجبُهُنَّ ذلك، ويتضاحكْن ويَصِفْنَهُ
بـ"الشيطان" تحبًّبًا إليه:
أّيَّامَ يدعونني الشيطانَ مِن غزلي ... وكُنَّ يهوَيْنَني إذْ كنتُ شيطانَا
قلتُ: قال
الجاحظ: "وكان جريرٌ أغزلَ الناس شعرًا"، وهذه كلمة آيةٌ في البلاغة
والامتداح، لأن جريرًا رحمه الله كان عفيفًا لم يخالطْ الآثام والكبائر، بل كان ذا
زوجةٍ وأبناء، وقد ماتت زوجتُهُ قبلَهُ فحزِن لها أشدَّ الحزن ورثاها رثاءً يهزُّ
القلوب، ومطلع تلك المَرثيَّة قوله:
لولا الحياء
لزارني استعبارُ ... ولزرتُ قبرَكِ والحبيبُ يُزارُ
يعني أنه لولا
الحياء من الناس وأنه شيخٌ كبيرٌ لاستعبرَ أي: لدمعتْ عيناه حزنًا على فراق زوجته،
ولزار قبرَها لأن من حق الحبيب أن يزورَهُ المحبُّ الدنِف.
وإنما قال
الجاحظ تلك الكلمة لأن جريرًا كان من أحسن شعراء العصر الأمويِّ في الغزل وأكثرهم
ورودًا لهذا الباب في الشعر، ومع ذلك فلم يكن زيرَ نساءٍ ولا له خليلاتٌ يُهدي
إليهنَّ قصائدَه، بل غزلُهُ قاصرٌ في الأشعار فحسبُ، ومَن بلغ هذه المرتبةَ فحريٌّ
به أن يُبدِع ويفوق أترابَه، لأنه لا يقول شعرًا لكونه رأى وسمع وجرَّب وخالط، بل
يقوله لسعة خياله وخصوبة أفكاره، وقليلٌ ما هم!
وعَوْدًا على بدءٍ؛ فإن كلمة
"يدعونني" في البيت الأول هي فعل مضارعٌ مسندٌ إلى نون النسوة، فالواو
هي واو الفعل الأصلية "يدعو"، والنون الأولى هي نون النسوة في محل رفع
فاعلٌ والنون الثانية هي نون وقاية الفعل، وهذا الفعل إذا أسندناه إلى جماعة
الذكور الغائبين قلنا كذلك: "يدعونني" لكن الواو هي واو الفاعل والنون
الأولى هي نون الرفع والنون الثانية تبقى نونَ وقاية أيضًا.
والله أعلم.
تعليقات
إرسال تعليق