- قال تعالى: "ولا تؤتوا السفهاء
أموالكم".
نقل بعض الأصدقاء تفسيرًا
منسوبًا للضَّحَّاك أنه قال في تأويل هذه الآية "السفهاء: النساء".
وعلَّقَ هذا الصديق قائلا:
"المرأة في كتب التراث"!
قلتُ:
وهذا
تسويقٌ خادعٌ لكتب التراث، حيث التقط عبارة الضحَّاك من بين ذخائر كُتُب التفسير واللغة
وأشاع أنها -بما تحتويه من ظلم للمرأة في نظره- هي مكانة المرأة في كتب أجدادنا من
علماء الأمة ومفسريها، وأصل المشكلة هو أن هذا الصديق يتبنَّى دعوة "غربلة
كتب التراث"، بينما لم يكلِّفْ نفسه البحث في جزئية صغيرة كهذه، ولم يجمعْ ما
قيل فيها ولا أوجب على نفسه ما يوجبه على غيره من البحث والتدقيق
و"الغربلة"، فهلَّا اقتنى غربالًا هو الآخَرُ؟!
فلزِمَ أن
أبيِّنَ الوهم والإيهام الواقعين في كلام الصديق فأقول:
السَّفَهُ
في العربية ذو معانٍ، منها: خفَّةُ الحِلْم، والجهلُ الذي هو عدم المعرفة، وخفَّةُ
الحركة، واضطرابُ الرأي، قال الرواة: وهي معانٍ قريبةٌ بعضُها من بعضٍ.
قال الزَّجَّاج
في قوله تعالى: "إلا مَن سفِهَ نفسَهُ" أي: إلا من جهِل نفسه.
فمن كان
جاهلا بالأمور فهو سفيهٌ.
وقال اللحياني
-أحد أئمة اللغة- في تفسير قوله "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم": بَلَغَنا
أنهم النساء، ثم قال: السفيهُ هو الجاهل بالإملال، يعني الذي لا يعرف الإملاءَ.
قلتُ: "السفهاء"
على وزن "فُعَلاء" ولا يصحُّ مطلقًا أن يكون هذا الوزنُ للمؤنَّث، بل هو
أحد أوزان جمع التكسير الخاصة بالمذكَّر مثل: العلماء والحكماء وأدباء ونحوها، فهل
يصحُّ أن نقول: نساءٌ أدباء، وفتياتٌ علماء؟ هذا لا يقول به أحدٌ من أهل العربية،
ومن جهِل هذا الموضع من فنِّ الصرف ومعاني الأوزان فقد سفِهَ نفسَهُ!
لذا قال
الطبريُّ في تفسيره: "والسفيه الذي لا يجوز لوليه أن يؤتيه ماله هو المستحق للحَجْر عليه،
وهو أن يكون مبذرا في ماله أو مفسدا في دينه".
قال رحمه الله بعد أن روى الآثار
في تأويل تلك اللفظة: "والصواب من القول في تأويل ذلك عندنا أن الله جل ثناؤه عم بقوله
(ولا تؤتوا السفهاء أموالكم)، فلم يخصص سفيها دون سفيه،
فغير جائز لأحد أن يؤتي سفيها ماله، صبيا صغيرا كان أو رجلا كبيرا، ذكرا كان أو
أنثى".
وهذا هو الظاهر الذي لا يصحُّ غيره، وهو راجع إلى الظاهر اللغوي والظاهر
الشرعي، فالظاهر اللغوي يعمُّ كل سفيهٍ ذكَرٍ،
والظاهر الشرعي يعمُّ الذكور والإناث في ذلك لأن خطاب الشريعة موجَّهٌ إلى الجنسين
على حدِّ السواء.
ولو بقينا في
الظاهر اللغوي لما كان تفسير الآية إلا بخصوص الذكور السفهاء.
قلتُ: ومن زعم أن
السفهاء المقصود بهم النساء، فقد ردَّ عليه الطبريُّ من ناحية اللغة فأبلغ الردَّ
حين قال: " وأما قول من قال : "عنى بالسفهاء النساء خاصة"
، فإنه جعل اللغة على غير وجهها، وذلك أن العرب لا تكاد تجمع"فعيلا" على"فُعَلاء" إلا
في جمع الذكور أو الذكور والإناث، وأما إذا أرادوا جمع الإناث خاصة لا ذكران معهم جمعوه
على: "فعائل" و"فعيلات" مثل "غريبة" تجمع"غرائب" و"غريبات"،
فأما"الغرباء" فجمع"غريب" اهـ كلامه رحمه الله.
فهل بعد هذا البيان من بيان؟
وإذا كان الوقوف على جزئية مثل هذه يتطلب قراءةً غزيرةً
لمعاجم العربية وكُتُب التفسير وحتى الحديث والآثار وتحقيق أسانيدها؛ فما بالك
بدعوى أصحابنا "غربلة كتب التراث"؟!!! لو أُعطِيَ
أحدُهُم عمر نوح في دعوة قومه لَمَا وفَّى بغربلة مؤلفات الطبري وحده، هذا إن
غمطْنا الطبريَّ حقَّهُ!
تعليقات
إرسال تعليق