- فضفضة لغوية (2): فَرْتَنَى.

من غريب ما شدَّ انتباهي في العربية هذه اللفظةُ "فَرْتَنَى"، صادفتُها حين كنتُ أقرأ مِن ديوان نابغة بني ذُبيان في مطلع قصيدة له إذ يقول:
عفا ذو حُسًى مِن فَرْتَنَى فالفوارِعُ ... فجَنْبَا أَريكٍ فالتلالُ الدوافعُ
فمجتمَعُ الأشراج غَيَّرَ رسمَها ... مَصايِفُ مَرَّتْ بعدنا ومَرابِعُ

من السهل أن نكتشف أنَّ هذه أسماء مواضع في جزيرة العرب وما جاورها، فعادة الشعراء الجاهليين ذِكْرُ أسماء القرى والمدن والجبال والتلال والسهول والآبار وغيرها في مطلاع قصائدهم -وهي الطَّلَلِيَّات قسيمةُ الغزليَّات-، يذكرونها ليس حشوًا وإنما لأنهم تركوا فيها ذكرياتٍ سعيدةً أو حزينةً...
ولكنَّ "فَرْتَنَى" شدَّت انتباهي؛ لأني تذكَّرتُ تلك الكلمة التركية المماثلة لها في النطق، وهي كلمة "fırtına" والتي تُنطق هكذا "فْرْتْنى" ولكن حركة الفاء والتاء هي بين الفتحة والسكون، ومعناها في اللغة التركية: العاصفة!
قال شُرَّاح ذلك البيت واللغويون:
إن لفظة "فرتنى" تطلق أيضا على معانيَ أُخَرَ منها: الضَّبُعُ، وتطلق على البغيِّ والأمة إذا لم تلحقْها "الْ"، ويشتقُّون منها فعلا فيقولون: "فَرْتَنَ" إذا أكثر من كلامه وشقَّقه، وفَرْتَنَ أيضا إذا مشى متقارب الخطو...
ولكنِّي تفاجأتُ حين أوغلتُ في البحث عن هذه اللفظة الغريبة؛ حيث وجدتُّ صاحب القاموس الرائد -وهو جبران مسعود، فتصنيفه هذا عصريٌّ- يقول لنا: "فرتنةٌ: هيجان البحر من عصف الرياح"!!
فعاد إليَّ ذلك المعنى الذي نجده في اللغة التركية، وكأني -لو ثبت هذا- أجزم بأن أحد الفريقين اقتبس من الآخر هذه المادة، ولكنْ: من أين أتى بهذا المعنى؟ لأنني لم أظفر من هذه المادة إلا بالمعاني التي ساقها القدامى فيما يتعلق ببيت النابغة الذبياني، أو ببعض الأشعار الهجائية التي يُعيِّر فيها الهجَّاؤون غيرَهم بأنهم "أبناءُ فرتنى" أي: أبناء الفاجرات! كقول جريرِ بن الخَطَفِيِّ:
أَلم تَرَ أَنِّي إِذ رَمَيْتُ ابْنَ فَرْتَنَى ... بصَمَّاءَ، لا يَرْجُو الحياةَ أَمِيمُها
ورغم أن ابن جني يزعم أن النون فيه زائدةٌ وأن اشتقاقها من الفعل "فَرُتَ - يفرُتُ" إلا أننا لا نجد أي علاقة بين معناه -وهو راجع إلى عذوبة الماء، ومنه اشتُقَّ الفرات- وبين العاصفة التي زعمها صاحب "الرائد".
فهل يكون "جبران مسعود" مجرد واهم نقل لنا لفظًا عامِّيًّا من بقايا اللغة العثمانية في الديار الشامية وحشره في قاموس "لغوي عصري"؟!!!
ربما؛ ويبقى احتمال النقل بين اللغتين -لا اللهجتين- قائمًا، فلِزاعمٍ أن يزعُم أنَّ الموضع الذي أراده الذبيانيُّ هو موضعٌ كثير العواصف، خاصة وأن جزيرة العرب فيها دَوِّيَّاتٌ ومَهامِهُ إذا هاجت فيها الرمال لا يكاد الراكب فيها يعرف مغرب الشمس من مشرقها...

تعليقات