:أحب أن أقول لأصحابنا الذين يصيحون صباحَ
مساءَ بدعوة "غربلة التراث"؛ أن أشد التيَّارات تقديسًا للتراث قد قاموا
بغربلته قبل أن تولدوا أنتم، ولْننظُرْ في علماء الوهَّابية وعلى سبيل المثال:
الشيخ المحدِّث الألباني -رحمه الله-، فقد وصل به الأمرُ في تحقيق التراث وتصفيته
إلى نقد كتب السنة والصحاح، وأعمل آلة النقد بكل جرأة علمية حتى في صحيح البخاري -الذي
يعتبه بعضُهم أضحَّ الكتب بعد كتاب الله!- وصحيح مسلم فضلًا عن سنن أبي داود والترمذي
ونحوها.
ومِن كل الفرق التي تعظِّم التراث وتعتبره
ذُخرًا أمميًّا عظيمًا؛ نجد ثُلَّةً من فضلائهم قد أدلوا بأدلائهم لنقد الكتب
التراثية في كل العلوم الشرعية: العقيدة والحديث والتفسير واللغة والتاريخ والفقه
وغيرها، وانظروا إن شئتم إلى النتاج العلمي لأسرة الغماري والكتاني وآل شاكر وأضرابهم
من أهل العلم.
ولكني أقول: نقد التراث بدأ مع أول حركة
تأليفية في أمتنا العظيمة، فلا نكاد نجد كتابًا وضعه صاحبه في أحد الفنون
الإسلامية إلا ونجد من أتى بعده من مذهبه أو من خارج المذهب لينقد ذلك الكتاب
ويردَّ على صاحبه أخطاءَهُ ويبلغ به الحدُّ إلى النقد الصارم واللاذع.
أمَّتنا زاخرةٌ بهذا المنهج النقدي البنَّاء.
وهذا موجودٌ في كل العصور: منذ أن وضع مالكٌ
موطَّأهُ ومعمرٌ جامعَهُ والفراهيديُّ عينهُ وخليفةُ طبقاتِهِ والطبريُّ تفسيرَهُ
والجاحظ بيانَهُ والبخاريُّ صحيحَهُ والشافعيُّ رسالتَهُ وأحمدُ مسندَهُ وهلمَّ
جرًّا منذ الزمن الغابر.
فالنقد والرد لم ينتهِ، ومتى رأيتم تيَّار
النقد يركُدُ حتى تفرحوا بدعوتكم هذه لإعادة النظر في التراث؟!!!
إن كنتم تريدون مجرد تصحيح الخطإ وتصويب
الصواب فذلك لم يتوقفْ يومًا ولله الحمدُ، وإن كنتم تريدون الطعن في أشخاص
المؤلِّفين والسخرية منهم ومن آرائهم -وهذا بالضبط ما تفعلونه- فذلك شأنكم ولا
يمثِّل إلا مقدار الحضارة عندكم.
تريدون أن تُلصقوا همجيَّة بعض المتشدِّدين
القتلة بالفقه الإسلامي عمومًا.
تريدون إلصاق تهمة "تسفيه المرأة"
بالفقه الإسلامي.
تريدون إلصاق تهمة التخلُّف الذي تشهده أمَّتُنا
بالفقه الإسلامي.
لن تجدوا في أمة من الأمم أشدَّ نقدًا
لتراثها من هذه الملة الزهراء، وقد يصل ببعض الأئمة أن ينتقد أحرُفًا من القراءات
القرآنية، فماذا تريدون يا "نوابغ القرن العشرين"؟!!!
التراثيُّون أولى بتحقيق التراث وغربلته
منكم، فلم نجد لكم من أعمال التحقيق سوى نُتَفٍ ساخرةٍ من علمائنا وفقهائنا،
تلتقطون الزلة من هنا وهناك وتُشيعونها في الناس وتقولون: "انظروا إلى كتب
التراث ماذا تحوي من طوامَّ"!
وأنتم فَرِحون...
وأوَّلُ من ينقض دعوتكم
هذه هو أنتم، فليس لكم فيها سوى الكلام... والسلام!
تعليقات
إرسال تعليق